9 سبتمبر 2017

وجوهٌ ذائبة ووردةٌ مُسممة



انطلقَ العالَمُ في الألوانِ الغائبةِ وغناءِ الطفلةِ ( كل ده دهب قِشرَة ).. 

مسرحُ القيامةِ يَفتتحُ الرواياتِ السيئةَ والحبُّ أعمى يجلسُ ويَبكي جانبَك، تُمَسِّدُ أعضاءَهُ وتعتذِرُ لهُ أنَّكَ لن تُحِبَّ لأنَّكَ تُذنِبُ بكَثرة، تَفرِشُ عَباءاتُ الوقتِ أضغاثَها على قلوبِ الضائعين، وتعلو صدى الحكاياتِ التعيسةِ وأمعاءَ القلق، صريرُ أبوابِ البحرِ يَعجنُ الأعصابَ بشدةٍ.

البحرُ واسِعٌ كصدرِك .. البحرُ دُوارُ الناجينَ من الحياةِ، ودوائرُ من الكوميديا الباهظةِ تَلتفُ حَولك، ولحظةُ التحولِ لشياطينَ محروقةٍ ستطولُ نوعاً، تفورُ الطيورُ في السماءِ وقررتُ أنا أن أخلعَ عُيونَ البشرِ "يِمكِن تشوف"، على قارعةِ جُرحٍ غبيٍّ تلتهمُكَ أصابعُ المَعكرونةِ وجُنونُ الصلصةِ الحامضة، تعومُ في كوبِ الشايِ باللبنِ والبسكويتِ السائحِ ولا تَرغبُ مِن الحُلمِ غيرَ أن يَكونَ جادًّا في العلاماتِ، فمتى آخِرُ مَرّةٍ أَكلتَ بِشَهيةٍ الحلوَى ولم تَبكِ؟! .. 

كان الكلامُ عُنُقَ اللحظةِ دُونَ قيمةٍ للحَدَثِ، فأكتبُ براحةٍ عن الأمِّ التي تموءُ كقِطّةٍ فِراقَ ابنِها، وعن الأمِّ التي يَشُقُّها جُحودُ الأبناءِ، وعن الأبِ الذي شَلَّهُ ضعفُهُ تجاهَ الصغارِ الذين خرجوا منه، مُحَزِّرَةً كيف احتَلَّ كوبري (أكتوبر) مساحةً شاسعةً من قلبِ الشارعِ دُون رحمةٍ، ضِحكتُهُ الساخرةُ تُبصرُ رُوحي بقوةٍ ولا أعرِفُ كيفَ أُمَرِّرُها دون التحامِهِ، أُخطُبوطاً واسعًا ألقَوهُ في بطنِ المدينةِ ليَفرِشَ أذرُعَهُ الثمانيةَ في حَلقِ طفولتي ويَقطعَها في المنتصفِ  نابتاً في كلِّ عامٍ ذِكرَى سيئة .. 

أمي لم يشتكِ ضوءُ بسمتِها مِنّي بعد ، أبي يسيرُ على خُطايَ كَي أعودَ ابنتَهُ في المحاولةِ والماضي ، وأنا أتحسَّسُ الصباحَ الذي يتجوَّلُ بين أصابعي.

أصابعي لا أراها في الضَّوءِ ولا أشعُرُ باتساعِ ذُنوبي حين ألمِسُ شامَتي الصغيرةَ، "شامتك كسوف" قالها قبل أن أُحبِطَه، صوتُهُ الذي يُطالِعُني في الهاتِفِ "صباح الخير" لا أُحِسُّه، مُغيَّبةً لا أَعي مَن جاء بهِ " هنا ! " لِيَقلِبَ عالَمي بينَ قوسَين جَديدين، فأَفرِدُ ذِراعَيَّ كَي أُبعِدَهما، وأسمعُهُ يُناشِدُ صَدري كَي أَرفُقَ بِه، يُخبرُني أن أنزلِقَ عن الماضي إليهِ كي أَعُودَ، وأُخبرُهُ أني لا أشعُرُ فَوَجهي غائبٌ ولا يَفهَمُ،  أُمسِكُ شامَتي من الوَجَعِ والوقتِ الذي يَرُوحُ، وحين وَضعتُ وَجهي أمام المرآةِ كان ذهَب ! .. 

فاستِدارةُ رُؤوسِ الأحداثِ لم تُبيِّن أنَّ تَركَ قيادةِ السياراتِ هي الفِرارُ الشاسِعُ مِن المسؤولية، ووحدَهم الذين نَسُوا أنَّ اللهَ فوقَهُم استعبدَتهُم حفلاتُ التنكُّرِ، كانوا مُتَعَدِّدينَ في الانهيارِ، و كانُوا ناقِصِينَ في الانقسامِ، كانوا الآخَرينَ بلا سببٍ واضحٍ، و كانوا البُيوتَ القديمةَ حين ابتلعَها الزمنُ، و كانوا نَحنُ حين عُدنا لِلمَرَايا .. 

وأنتَ كائنٌ مُعادٌ والمرأةُ البيضاءُ تشاورُ على ضِلعٍ أعوجَ تُرَمِّمُه الصَّبايا في الكلامِ، لم يَفهَمْها الشاردُ عن الواقِعِ حين كَسَرَهُ وكان عليه فَقَط أن يَلبَسَه، المرأةُ البيضاءُ تحوَّلَت بِنَفسجيَّةً كما يجبُ وتَضحَكُ مِنكَ الآنَ، تَضحَكُ مِن الذي قالَ لها يوماً "كل شيءٍ فيكي جميل ولكن سأغيب" فقطعَ أجنحتَها مُرَدِّدًا "لأجلك"، هاربًا في الأفقِ كَي لا يَرى الجُرمَ، وَوَحدَها فَهِمَت أنَّكَ لم تَقُلْ لِلمَحبوبةِ آمانًا تَفهَمُهُ ولم تَمنَحْ مَحبوبةً أخرى معنًا أن تُحِبَّ وتَنسَى فرَمَتكَ لِلقِطَطْ ! .. 

كان الغُرُوبُ واقِفًا، وكانَت العَرّافةُ تُنادي الغائِبينَ في الحُلم .. تَستَهزِئُ بالعابِرِين ( قال الودع حاضر يا غريب )، وكان المجنونُ أكثرَ العارِفينَ في الظُّلمَةِ حِينَ صَعِدَ على هَلوَسَةِ الدنيا وَرَدَّدَ "مكسور ضلوع الطريق ويّا المرصوصين في رفوف تعب" .. لِيُوجِعَ شابًّا ما، لا يَعرَفُ مِن الحياةِ غيرَ شَيخُوخَتِها حين ناداهُ البائِعُ "وَرد يا بيه؟" رَدَّدَ "دبلان لُقا"، فأَحرَقَ (شَوْيُ) الذُرَةِ قلبَ الفتاةِ التي بجانبِهِ، لم تَكُن وِاعِيةً حِينَ أَغرَقَتهُ في كاسيت السَّيّارةِ ( تعرف إحساس زهرة بردانه؟ قلبي بيقول مات جوانا )، ووحدَها احتمالِيَّةُ الانتهاءِ بِبَعضِ البَلَلِ كانَت تَلهَثُ على سَطحِ كُورنيش قَصرِ النيل، لِتَدورُ الوسائدُ الخاليةُ بهيستريا في عُيونِ المارِّينَ والصاعدينَ والنازلينَ لِلهاوِيَة .. 

كان الطريقُ أمامَنا عاريًا وكانت التَّجاعيدُ أبرَزَ في الانكِسارِ، كلُّ الكائناتِ اختفَت في الرَّمادِيِّ، المرأةُ العَجوزُ تحوَّلَت لِجِنِّيَّةٍ بارعةٍ في الحِرصِ والطيرانِ، تَدهِنُ الونس بالفانيليا وتُقَبِّلُ أطفالَ الجَنَّةِ، وَحدَهُ الرجلُ العَجوزُ الجالِسُ عندَ بابِ القيامةِ غَزَتهُ الوِحدَةُ، حِينَ مَرّت أمامَهُ الصّبايا تَذكَّرَ الذي كان يُحبُّها ويَذبَحُها "ستَعيشِينَ وَحيدَةً" وانفجرَت رأسُهُ في الرحيلِ، وبَقِيَ هُوَ عندَ نافذةِ جَهَنَّمَ يَبكي ذُنوبَهُ ويُغَنّي سُقوطَ العالَمِ في المجهولِ، يُفكِّرُ في آخِرِ ما رَمَتهُ الحَبِيبَة من سُؤالٍ ونَسِيَ حِينَها الإجابةَ، صارخًا في قلبِ كلِّ العاجزينَ عن الحُبِّ " يا اللهُ ما لَونُ الحُبّ ؟ " .. 

"الحُبُّ نَرجسيةُ العاشقِ لو أََصَر على جُرحِ نَفسهُ" قالَها طِفلٌ يَحترقُ ثُمَّ اختفَى ! .. 
 ....

 
 في سبتمبر2011 
اللوحة لـ : TOMASZ RUT

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق