26 يونيو 2008

من عاشقٍ في سماء الأندلس


يبدو أن الصيف جاء واضحا مبكرا هذا العام من بدايته على غير عادته بتخزينها لنهايته ، ليصدمني بالكثير وفي الكثير ولكن فالأتجاهل الحياة وسأمارس لغة الصمت كالعادة اتجاه كل الأشياء ، فاليوم لم يعد في جعبتي غير سكُوت ، حيث لن يُهم أحد مني غيره .. فليكن .

ونظرا لكِثر حزن هنا كما يعترض عليه البعض وما كرهه البعض وما لا يهم الكثير وما يثقلني أنا شخصيا ، ويثقل براءة المدونة وهي ما تهمني من كل السواد الذي يلحق بها مني ، فوددت أن أخفف وأحاول أن ألملم ما يؤلم بعيدا عن النوافذ ، ببعض ما يمتعني كثيرا في بعض حين وخاصة أني تذكرتها مع متابعتي الحالية للمرة الثانية .. مسلسل ملوك الطوائف ،

.......

هي الحكاية التي خلدتها الاندلس قبل أن تغرب شمسها على سنابك خيل الطامعين والغزاة القادمين من أقاصي الغرب ومن الشمال ، وحدها من بقي بعدما أُريقت الدماء ورفع السيف بوجه الموالين .. القابضين على جمر دينهم وعقيدتهم .. لم يبق شيء من آثار ومآثر الأندلس إلا وطالته يد التغيير والتبديل .. وامتدت إليه سيوف الغدر والانتقام ، ولكنها الحكاية المكتنزة بالإثارة التي بقيت ، فيها الحب بكل ما يحوي من غيرة ، ووصل ، وهجر ، فيها مد وجزر ، مطر وجفاف ، عاصفة ونسائم ، وكل متضادات الحياة ... والضد يُظهر حُسْنُهُ ضده .

هو :

أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي القرشي ، ولد عام 494هـ \1003م ينتمي إلى قبيلة مخزوم القرشية ، نشأ في بيت حسب ونسب ، الأب ثري صاحب أموال وضِياع ، ويعمل بالقضاء والفقه ، اهتم بابنه ابن زيدون فأحضر له الأدباء والمٌثقِيفين ، وعندما توفي كان ابن زيدون في الحادية عشرة من عمره ، وانكب بعدها ينهل من المعارف والعلوم حتى أصبح واحدا من أشهر الشعراء العرب

هي :

ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن الخليفة "المستكفي بالله " أشهر نساء الأندلس ، وإحدى الأميرات من بني أمية ، جميلة شقراء فاتنة ، ذكية ، شاعرة ، متحررة ، رفعت الحجاب للمرة الأولى في تاريخ الأندلس ، كانت بعد موت أبيها تقيم ندوة في منزلها يحضرها الشعراء والأدباء ومنهم ابن زيدون ، فبادلته حبا بحب ، وهياما بهيام ، واحترقا بنار الحب والغرام ، وعاشا حياة محمومة بالحب والغيرة والمؤامرات ، وجمال الحكاية وإثارتها يعود إلى أن ولادة تقريبا - الشاعرة العاشقة العربية الوحيدة التي كان لها موقف واضح وصريح من الرجل كانت سيدة الموقف عكس كل اللواتي قرأنا عنهن ولم نسمع لهن صوتا ، أو نلمس لهن موقفا ، ولم نعرف إن كن معنيات بمجانينهن أم أنهن كن مجرد إناث في زمن " الأنوثة " .

......

إن قصة حب ولادة وابن زيدون واحدة من أجمل قصص الحب والغرام في تاريخ الأندلس وفي تاريخ الأدب العربي بصفة عامة ، في حدائق مدينة قرطبة الأندلسية بدأ اللقاء الأول بين ابن زيدون وولادة .... هو في ميعة الشباب ، وهي أُنثى رائعة الجمال ، تحت ظلال الأشجار الوارفة ، كانا يتساقيان كؤوس الحب .

وفي الموعد واللقاء الأول باح كل منهما بحبه للآخر فلما انفصلا صباحا انشد :

ودع صبر المحب محب ودعك .... ذائع من سره ما استودعك

يقرع السن علي إن لم يكن .... زاد في تلك الخطى إذ شيعك

يا أخا البدر سناءً وسنى .... حفظ الله زمانا أطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم .... بت أشكو قصر الليل معك

وكانت ولادة نبيهة وذات خفة دم .. في مرة كتبت على أحد عاتقي ثوبها :

أنا والله أصلح للمعالي .... وأمشي مشيتها وأتيه تيها

وأمكن عاشقي من صحن خدي .... وأعطي قبلتي من يشتهيها

....

ومحدث القطيعة بين الحبيبين ابن زيدون وولادة يرجعه النقاد هذه القطيعة إلى أسباب شتى ، منهم من يقول إنها الغيرة وهي الأقرب سببا ، حيث أن ابن زيدون شاب وشاعر ووزير كانت له ألاعيبه التي تغضب ولادة وتجرح كبريائها ، من ذلك مغازلته لبعض جواريها لكي يثير غيرتها ، لما ذكر أنه في أحد الأيام استمع ابن زيدون إلى صوت جارية ولادة واسمها " عُتبة " وطلب منها أن تعيد ، فغضبت ولادة ولها في ذلك أبيات تهجوه إذ تقول له معبرة عن غضبها وغيرتها وكبريائها :

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا .... لم تهو جاريتي ولم تتخير

وتركت غصنا مثمرا بجماله .... وصخت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني بدر السما .... لكن دهيت لشقوتي بالمشتري

بينما يرى البعض الآخر أن سبب القطيعة بين ابن زيدون وولادة هو نقد ابن زيدون لبيت قالته ولادة وهو :

سقى الله أرضا قد غدت لك منزلاً .... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق

وكان نقد ابن زيدون للبيت بأنه أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له ، وهنا اصطدمت ذات ولادة الشاعرية المتضخمة بذات ابن زيدون الناقدة ، وحدثت القطيعة .

وإن كان هناك من يرى أن القطيعة سببها انضمام ابن زيدون لحركة " الجهاورة " المعادية لبني أمية وهي بنت خليفة أموي .


ولكي تنتقم من صاحبها كان عليها أن تجد وسيلة ، وابن عبدوس كان وسيلتها ، فكلما جرحها ابن زيدون تمايلت نحو خصمه ، وكلما خانها ترفقت بغريمه ، فغضب ابن زيدون منها عندما بلغه أنها تستقبل ابن عبدوس الذي كان ينتظر بفارغ الصبر الفرصة لزيارة مجلسها ، وقال حبيبها يهجوها في سورة الغضب والغيرة:

أكرم بولادة ذخرا لمذخر .... كم فرقت بين بيطارٍ وبيطار

قالوا أبو عامرٍ أضحى يُلم بها .... قلت الفراشة تدنو من النار

أكلٌ شهيٌ أصبنا من أطايبه .... بعضٌ وبعض صفحنا عنه للفأر

فغضبت منه حينما علمت وقاطعته


وهو رغم كل غضبه وغيرته ما استطاع نسيانها أو كرهها بل عاد زاحفا يسترضيها ويمدحها :

وبنفسي وإن أُضر بنفسي .... قمر لاينال منه السُرّار

جال ماء النعيم منه بخدٍ .... فيه للمستشف نور ونار

مُـتجنٍ يحلو تجنيه عندي .... فهو يحبني ومني الأعذار

وزادها محبة واعتذار وقال :

ساء الوشاة مكاني منك واتقدت .... في صدر كل عدو جمرة الحسد

فليسخط الناس لا أُهدِ الرضى لهمُ .... ولا يضع لك عهدٌ آخر الأبد

لو استطعت لو كنت غائبة .... غضضت طرفي فلم أنظر إلى أحد

وظل يسترضيها ويرجوها ويندم على جرحها :

لو أنني واقعت عمدا خطيئة .... لما كان بدعا من سجاياك أن تملي

فلم أستثر "حرب الفجار " ولم اطع .... مسيلمة إذا قال إني من الرسل

هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب .... لقيل الأعادي إنها زلة الحسد

ولما رضيت عنه وسامحته أرسلت إليه أبياتا تخبره بقدومها :

ترقب إذا جن الليل زيارتي .... فإني رأيت الليل أكتم للسرر

وبي منك ما لو كان بالبدر لم يلُح .... وبالنجم لم تطلع وبالنجم لم يسرر

لكنه في النهاية رجل يبحث عن اللهو والعبث ، قال لها مرة كي يغيظها ويثير غيرتها :

قد علقنا سواك علقاً نفيساً .... وصرفنا إليه عنك النفوسا

ولبسنا الجديد من خُلع الحب .... ولم نألًُ أن خلعنا اللبيسا

ليس منك الهوى ولا أنت منه .... اهبطي مصر أنت من قوم موسى

ولما غضبت منه وهجرته عاد إليها مشتاقا ، فهي ماكانت امرأة يمكن نسيانها حتى ولو حاول استبدالها بملكات الجمال ، فالقضية كانت قضية روح واحساس ، وهي لا تُشبهها امرأة .. أرسل إليها يستعطفها :

لعمري لئن قلت إليك رسائلي .... لأنت الذي نفسي إليه تذوب

فلا تحسبوا أني تبدلت غيركم .... ولا أن قلبي من هواك يتوب

وعندما لم تستجب له كتب يقول :

سأحب أعدائي لأنك منهم .... يامن يُصح بمقلتيه ويُسقم

أصبحتِ تُخطي فأمنحك الرضى .... محضاً وتظلمي فلا أََتظلم

يامن تآلف ليله ونهاره .... فالحسن بينهما مضيء ومظلم

قد كان في شكوى الصبابة راحة .... لو أنني أشكو إلى من يرحم

ويبدو أن ولادة تعبت من كثرة الجفاء ومن لعبة المد والجزر وأرادت أن ترتاح وتسكن إلى شاعرها ، فأرسلت إليه تقول :

ألا هل لنا من بعد هذا التفرق .... سبيل فيشكو كل صب بما لقي

وقد كنت أوقات التزاور في الشتا .... أبيت على جمر من الشوق محرق

فكيف وقد أمسيتُ في حال قطيعة .... لقد عجل المقدار ماكنت أتقي

تمر الليالي ولا أرى البين ينقضي .... ولا الصبر من رق التشوق معتقي

سقى الله أرضا غدت لك منزلا .... بكل سكوب هاطل الودق مغدق

ورد عليها ببيتين اثنين يقول فيهما :

لحى الله يوما لست فيه بملتقِ .... محياك من أجل النوى والتفرق

وكيف يطيب العيش دون مسرة .... وأي سرور للكئيب المؤرق ؟

كانت امرأة قوية تعاملت مع عشاقها بندية ، الأمر الذي سبب لها الكثير من الألم والشقاء ، وليس من السهل أن تكون المرأة حرة دائما ، هناك لابد ضريبة تدفعها من دموعها وحياتها .

عاشت القليل من لحظات الحب والكثير من أيام العذاب والمرار عذابها كان الرجل الذي لا يقل حبه لها عن حبها له ، وكانت ولادة ملهمة عظيمة ، وأجمل دواوين الشعر الأندلسي قيلت في حبها وجمالها ، وأحلى الموشحات الأندلسية كتبت عنها ولها .

حاول ابن زيدون عبثا تقديم اعتذرات تلو الأخرى ليستعيد حبه الضائع بلا جدوى ، وما سمعت ولادة له ، حيث نجح ابن عبدوس وأعوانه في تدبير مؤامرة ضد ابن زيدون لإبعاده عن طريق ولادة ، وبعد مدة قدم ابن زيدون إلى المحاكمة وحكم عليه بالسجن ، ولم يستطع السجن أن يمنع صوته من أن يتردد صداه في جنبات قصر الزهراء مرددا :

إني ذكرتك في الجهراء مشتاقاً .... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا

وللنسيم اعتلال في أصائله .... كأنه رق لي فاعتل اشفاقا

ولكن ولادة كانت قد أصمت الأذن وأغلقت مزاليج القلب حينما دلت قصائد ابن زيدون على إخلاصه لحبه ولولادة ، فإنها بالتالي دلت على طبيعة ولادة العابثة اللاهية التي تتساقى كؤوس الهوى مع ابن عبدوس بينما الحبيب وراء القضبان يعاني الظلم والإنقهار والوحدة والإنتظار ، ويهرب ابن زيدون من سجنه ويعفو عنه الخليفة ويحاول استعادة حب ولادة برقيق الشعر وعذب القول علها ترق وتعود لأيام الحب الأول فيرسل لها قصيدته " النونية " الشهيرة ومن أروع ما كتبه والتي يقول فيها :

أضحى التنائي بديلا عن تدانينا .... وناب عن طيب لقيانا تجافينا

إن الزمان الذي مازال يضحكنا .... أُنساً بقربكم قد عاد يُبكينا

بنتم وبنا وما ابتلت جوانحنا .... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا .... إن طالما غير النأي المحبينا

وفي الجواب متاع لو شفعت به .... بيض الأيادي التي مازالت تولينا

عليك مني سلام الله ما بقيت .... صبابة منك تخفيها فتخفينا

لقد تمكنت ولادة من ابن زيدون حتى بهجرانها فقد فجرت به طاقات شعرية هائلة أغنت تراثنا الشعري ، فلقد أحب وتعذب وعانى من أجل حب ضائع وما تمكن من استعادته حتى آخر لحظة من عمره .

ومن المؤسف أننا لن نجد نهاية واضحة أو محددة لحكاية ولادة وابن زيدون ، هل تزوجت ابن عبدوس بعد أن هزم والدها وهرب من قصره في ثياب امرأة ؟ أم أنها عاشت في كنف ابن عبدوس مجرد عشيقة كما تقول بعض الروايات ؟

ولكن المؤكد أن ....

كلمات الحب تشتعل نارا بين أنفاسهم .. وبالمعاني التي تتدفق حبا وحنينا ، وفي حديقة الأندلس .. وجدت بعضا من هذه المشاعر.. كلمات قصيد محفورة على شاهدين .. وكأنهما ما بقى من الحكاية.. في إحداهما كتب مذيلا باسم ولادة بنت المستكفي " أخاف عليك ، من عيني ومني ، ومنك , ومن زمانك ، والمكان .. ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني " ... فيرد الشاهد المقابل لها ببيت ابن زيدون " يا من غدوت به في الناس مشتهِرا قلبي .. عليك يقاسي الهم والفكرا .. إن غبت لم ألق إنسانا يؤنسني .. وإن حضرت فكل الناس قد حضرا " .

تبقى الكلمات تتردد كما أرواحهم تهيم بالمكان .. تفتش عن أمكنة اللقاء .. وتتحين فرصة التواري عن العيون .. حيث العشق ينبض من جديد .. وحيث لا حدود للتشاكي .. وبث لوعات الفراق ،

ـ ومات ابن زيدون وماتت ولادة وبقي حبهما يحكى وينشد ـ
..........

بي اس : الموضوع منقول من أماكن مختلفة

هناك 6 تعليقات:

  1. لكل قصه حب رائحه مختلفه .. وخيرا تعطر هواء مدونتك بتلك النسائم العطره .. وكذلك نحن ... شكرا لك

    ردحذف
  2. دائما حينما نريد الاستمتاع بعيدا عن الحزن أو الفقد نُُغرق أنفسنافي دوائر القصص واشعار وحكايا الزمن الفائت عن الحب

    رائعةٌ هذه القصة وتمتعني شخصيا

    لكن أليس الأفضل أن نبحث عن الحب فيمن حولنا" شمسٌُ تدركها الأعين " ؟

    دمتِ نقية
    والموسيقى حزينة أوي

    ردحذف
  3. قصة فى غاية الروعة والتشويق بصراحة شدتنى أكملها للنهاية بكل ما فيها من ابيات شعر وغزل
    كذلك فقد شدتنى شخصية ولادة الساحرة القوية ذات العقل والجمال

    عرض جميل جدا يا نهى

    تحياتى

    ردحذف
  4. بجد مشفتش الجمال ده فى اى مكان ولا فى هدوء المكان والمدونه ولا رئه كلامك الجميل انا كنت هنام عليه من احساسو الرائع حسيت انى جوااااااااه من رومنسيه وأهات ودموع واحزان شيئ يفرح وشيئ يبكى وشيئ يلهى بجد انتى رائعه

    ردحذف
  5. حامد

    عندك حق بس القصة ديه مميزه
    والفضل في جمال سليمان ذكرني بها بأداءه المميز دوما

    وشكرا لمرورك

    ....

    محض روح

    لا
    فقط استدعاءات قراءات ممتعة :)

    ....

    المجهول أو المجهولة
    كنت اتمنى أعرف مين

    ولا يكون للاخرين مستقبل إذا لم يكن هناك ماضي لأخرين غيرهم يستعيدونه

    اممم لو وجد فيمن حولنا لأدركته الأعين
    للحين الغروب يسود في الدوائر
    والموسيقى نو كومينت كفايه افرفش البوست ... هفرفش كمان الموسيقى ! :)
    تحية للمرور

    ....

    حازم سويلم

    هوا العرض مجرد تجميع يافندم من كذا مكان
    مش أنا اللي كتباه
    لكن شكرا لك
    وتحية لك

    ....

    آدم المصري

    وردك أروع من هنا
    شكرا لمرورك الأول
    أسعدني بصدق

    تحية

    ....

    ردحذف